القسم الرابع
الباب الثالث: الشعر والغناء:
الفصل الأول: ارتباط نشأة الشعر بالغناء.
الفصل الثاني: العروض علم غنائي سمعي.
تغن بالشعر إما كنت قائله * * * إن الغناء لهذا الشعر مضمار
ويقولون : فلان يتغنى بفلان أو بفلانة، إذا صنع فيه شعراً.. قال ذو الرمة:
أحب المكان القفر من أجل أنني * * * به أتغنى باسمها غير معجم
وكذلك يقولون: حدا به.. إذا عمل فيه شعراً.. قال المرار الأسدي:
ولو أني حدوت به أرفأنت * * * نعامته وأبصر ما يقول
العمدة لابن رشيق 2/1087-1088 ]
الفصل الأول : ارتباط نشأة الشعر بالغناء:
قال طه باقر :"إن كلمة شعر الموجودة في كل اللغات السامية تعني في أصل ما وضعت له الغناء مثل شيرو البابلية، وشير العبرية، وشور الآرامية.
ومن ذلك المصطلح العبراني "شيرها شيريم": أي نشيد الإنشاد المنسوب إلى سليمان عليه السلام" (1).
قال أبو عبدالرحمن: وشعر عند اللغويين لا تعني معاني أخواتها في اللغات السامية، لأنهم أخذوا معنى الشعر من الشعرة.
قال بن فارس :"الشعار الذي يتنادى به القوم في الحرب ليعرف بعضهم بعضاً.. والأصل قولهم : شعرت بالشيء .. إذا علمته وفطنت له.
وليت شعري .. أي ليتني علمت.. قال قوم: أصله من الشعرة كالدِّربة والفطنة، يقال شعرت شعرة.
قالوا : وسمي الشاعر لأنه يفطن لما لا يفطن له غيره.
قالوا: والدليل على ذلك قول عنترة:
هل غادر الشعراء من متردم * * * أم هل عرفت الدار بعد التوهم
يقول: إن الشعراء لم يغادروا شيئاً إلا فطنوا له" (2).
وقال الراغب الأصفهاني :"وشعرت أصبت الشعر، ومنه استعير شعرت كذا.. أي علمت علماً في الدقة كإصابة الشعر.
وسمي الشاعر شاعراً لفطنته ودقة معرفته، فالشعر في الأصل اسم للعلم الدقيق في قولهم: ليت شعري.. وصار في التعارف اسماً للموزون المقفي من الكلام، والشاعر للمختص بصناعته.
والمشاعر الحواس، وقوله :"وأنتم لا تشعرون": لا يعقلون لم يكن يجوز، إذ كان كثير مما لا يكون محسوساً قد يكون معقولاً" (2).
قال أبو عبدالرحمن: الشعور ليس لعموم مدركات الحواس، وإنما هو للمدركات الخفية، ولهذا تقول: شعرت بقملة أو نملة.. ولا تقول: شعرت بجمل أو فيل .
وإذا صح أن الشعر يعني الغناء في اللغات السامية فينبغي أن يكون هذا المعنى هو الأصل لمادة شعر، وتكون المعاني الخفية اشتقت من ذلك على دعوى أن الشعراء يفطنون لما لا يفطن إليه غيرهم.
وعلى أي تقدير كان الأصل فقد أصبح الشعر في العرف يعني الغناء كما سيأتي من أمثال قول عمر بن الخطاب للنابغة الجعدي رضي الله عنهما:
أنشدنا من غنائك .. يعني شعرك.
وممن دلل على التصاق الشعر بالغناء الشاعر الحداثي الأستاذ أحمد عبدالمعطي حجازي.. قال :"من المعروف أن القصيدة الغنائية منحدرة من أصل قديم مركب يجمع بين الشعر والموسيقى والرقص التي تشترك كلها في إيقاعات واحدة، ولا تزال هذه الفنون شيئاً واحداً عند القبائل البدائية.
وتمدنا أعياد ديونيزوس بأمثلة قديمة.. كما تمدنا الحضرة الصوفية (4) بأمثلة محلية .. ونحن نعلم العلاقة الوثيقة بين الحداء ونشأة الشعر العربي.
ولدينا أمثلة من الأشعار القصيرة التي كانت تغنيها الأمهات يرقصن بها أطفالهن في الجاهلية .. من ذلك ما غنته هند بنت عتبة لابنها معاوية، وما قالته ضباعة بنت عامر بن قرط بن سلمة بن قشير وهي ترقص ابنها المغيرة بن سلمة، وما قالته أم الفضل بن الحارث الهلالية وهي ترقص ابنها عبدالله بن عباس.
وإذا كانت القصيدة العربية قد تحولت فيما بعد إلى فن أدبي خالص، واستقلت عن الغناء والموسيقى: فقد ظلت محتفظة بالإيقاع .. يذكرنا بذلك الفن المركب الذي انفصلت عنه، والبيئة الدينية السحرية التي نبعت منها تقاليدها كما نبعت منها تقاليد القصيدة الغنائية في كل اللغات" (5).
قال أبو عبدالرحمن: الموسيقى والنص الفني مشتركان في مقوم واحد، وهو ـن معيار تصنيفها واعتباره معيار واحد هو حكم الحاسة الجمالية.
كما يشتركان في خصائص متناوبة، فالسجع والازدواج في النثر خصيصية موسيقية يتجمل بها الأدب، والقافية والوزن والإيقاع والنبر خصائص موسيقية يتجمل بها الشعر.
قال أبو عبدالرحمن : إلا أن العلامة الدكتور إبراهيم أنيس جزم برأي يتخطى ما صح من ارتباط الشعر بالغناء وهو يتحدث عن الإنشاد، فقال :"لقد أجمعت الروايات على أن الشعر العربي كان ينشد في أسواق الجاهليين فيهز قلوب السامعين هزاً، ويطرب القوم لموسيقى الإنشاد، وكان ينشد أمام النبي صلى الله عليه وسلم وفي حضرة الخلفاء فيطربون له.. أما كيف كان ينشد فلا ندري؟!.
ولاشك أن أصحاب الروايات القديمة قد عَنوا بالإنشاد شيئاً غي الغناء.
وليس بين أيدينا ما يدل على أن الشعراء في الجاهلية كانوا يتغنون بالشعر، وإنما تحدثنا الروايات دائماً على الإنشاد وما فيه من قوة وحماس، وأن الشاعر كان ينظم القصيدة ويفد بها فينشدها في الأسواق مُفاخراً أو مادحاً.
ولم يكن الغناء من عمل الشاعر ولا مما ينتظر منه .. وشعراء الجاهلية كانوا من خاصة العرب الذين أتيحت لهم فرص الثقافة اللغوية في تلك المؤتمرات الثقافية التي كانت تسمى بالأسواق، فكان الشاعر من الجاهلين يأنف أن يجلس مجلس المغني، وإنما كان يترك هذا للجواري والقيان، لأن الغناء أجدر بهن وأليق برخامة أصواتهن.
وأما ما أشتهر عن الأعشى من صناجة العرب فقد فسره كثير هنا غلبة العنصر الموسيقي في ألفاظ شعره إذا قيس بغيره، أو لأن شعره كان مما يصلح أن يتغنى به.
وقد جاءتنا الروايات القديمة بما يدل على أن الشاعر إذا لم ينشد شعره، وأراد أن يتغنى به: دفع به إلى جارية من الجواري ذوات الأصوات الجميلة ممن يحسن التلحين والعزف على الألآت الموسيقية تتغنى بالشعر في مجلس من مجالس اللهو والطرب " (6).
قال ابو عبدالرحمن : الغناء والإنشاد يتعاقبان وليس أحدهما بديل الآخر، بل لكل واحد وظيفته.
فالغناء تعبير موسيقي يسبق ولادة البيت ويصاحبها، لأنه وزن موحد للقصيدة .. فإذا تمت القصيدة مستقيمة الوزن أصبح الغناء غير ضروري للشاعر إلا أن تدعو إليه حالة جديدة.
أما الإنشاد فيكون بعد ميلاد القصيدة، وليس الغرض منه إيجاد الوزن لأنه قد وجد، وليس الغرض منه اكتشاف صحة الوزن لأن الشاعر قد اكتشف صحته بسبيل يقيني هو الغناء.
وإنما الإنشاد لإظهار المتعة بالموسيقى الخارجية المتمثلة في الوزن والقافية، ولتحريك السامع وإيقافه صوتياً على مدلول القصيدة التأثري من تعجب واستفهام وإنكار وتقريع.. إلخ.
ومن مهمة المنشد إقامة الحروف إقامة توافق الوزن فلا ينكسر إلا في حالة استثنائية وهي تسكين الإنشاد.
ويلاحظ في كلام الدكتور إبراهيم أنيس أنه استدل بدعوى ظاهرة أَنَفَةِ الساعر الجاهلي من الجلوس مجلس المغني على دعوى أنه ليس بين أيدينا ما يدل على أن الشعراء في الجاهلية كانوا يتغنون بالشعر.
قال أبو عبدالرحمن: ستأتي نصوص شعرية ونقول تاريخية تدل على أن الشعراء في الجاهلية كانوا يتغنون بالشعر.
كما أن غناء الشاعر الجاهلي ليس مشروطاً بأن يكون حلو الصوت بحيث يكون مطرباً محترفاً يغني للجماهير وتصحبه الآلات .
وإنما يعني وحده بلحن مأثور يزن عليه قصيدته، ويغني وحده ليكتشف لحناً جديداً يزن به قصيدة سيقولها.
ويغني وحده بقصيدته إذا قالها وبقصيدة غيره ليروح بها عن نفسه إن كان وحيداً.
ويغني مجاوباً لغيره من السَّفْرِ في حدائهم مثلاً للترويح عن أنفسهم وإطراب إبلهم.
وبعد هذا فلا نجد ما يدل على أن الشاعر الجاهلي يترك احتراف الغناء ترفعاً، وإنما يُستلذ الغناء من القيان ومن ذوي الأصوات المليحة، وليس كل شاعر مليح الصوت.
وليس الأعشى الشاعر الوحيد الذي كان يغني بشعره فنحفل بتحقيق معنى صناجة العرب ومدى دلالتها على كونه مغنياً.
وأنجح دراسته تأصيلية لظاهرة بناء الشعر على الغناء الدراسةُ التخصصية الرائدة الماتعة باسم :"في سبيل البحث عن الإيقاعات الجاهلية " للدكتور عبدالحميد حمام(7).
وأوجزت المجلة هذا البحث النفيس في صفحة واحد، فقالت :"أكدت هذه الدراسة العلاقة الوشيجة التي ربطت الجاهلي بالغناء، كما كشفت عن اختلاف هذه العلاقة في العصر الجاهلي عنها في العصور الإسلامية، ففي العصر الجاهلي كانت المقاطع اللفظية مساوقة للوزن الموسيقي بالمد والقصر، بينما أهملت الألحان الإسلامية شيئاً فشيئاً هذه القاعدة إلى أن تحلت عنها في أواخر العصر العباسي.
وكانت المصادر التي أسهمت في التوصل إلى حلِّ المشكلة الأوزان الجاهلية تتضمن:
1. الشعر العربي القديم الذي خافظ على الإيقاعات الجاهلية.
2.الغناء البدوي الذي يحمل بعض صفات الغناء الجاهلي، إذ أنه أقل أنواع الغناء العربي تأثراً بالموجات الثقافية الأجنبية التي اجتاحت الوطن العربي على مر العصور، ذلك لأنه معزول جغرافياً عن المراكز المدنية الثقافية.
وقد طرح البحث مميزاته المختلفة:
3.المصادر الأدبية العربية والإسلامية القديمة منها والحديثة، ونخص منها تلك التي بحثت في الأوزان الشعرية والموسيقية .
ولقد تبين لنا أن صفات الوزن الشعري (الموسيقي) تتلخص فيما يلي:
أ-اعتماده النبر الموسيقي وليس اللفظي .
ب- تكوُّن اللحن من جزئين متساويين ومتناظرين كشطري البيت من الشعر.
ج- تدل القوافي على القفلات الموسيقية.
د- يقوم الوزن الموسيقي بتعديل الخلاف بين عدد المقاطع اللفظية في الأشطر.
هـ- للمقصور في الوزن الشعري (الموسيقى) قيمة زمنية واحدة، بينما للممدود ثلاث قيم مختلفة باختلاف موقعه.
و- أبت الشاعرية العربية الجاهلية توالي أكثر من متحركين أثنين "(8).
قال أبو عبدالرحمن: هذه الدراسة التخصصية الرائدة أكدت ما وصل إليه إيماني إلى حد يقين من كون الغناء هو الأساس في نشأة الشعر العربي، وأن الوزن الشعري قالب للحن الغنائي، وأن الغناء البدوي والقروي الذي عايشته منذ الصغر في أنقاء القرية، وعلى ظهور السيارات النقلية منذ أربعين عاماً وأكثر، وفي مناسبات القرية من عرضة وحصاد وسانية ورحى وزغب .. كل هذه الأغاني ذات الألحان الساذجة المجردة عن الآلة هي أساس تأليف الشعر العامي بلهجة أهل نجد، وهي القاعدة في استنباط أوزانه.
والشعر العربي صنو الشعر العربي الفصيح الجاهلي من ناحية الأمية ووزن الشعر بلا كتاب، وشذاجة اللحن والعزلة عن مراكز المدنية الثقافية .
هذا اليقين الذي أدركته وسائلي الثقافية ووسائل بعض الباحثين ممن لا تخصص لهم بالعلم الموسيقي البحت: هو اليقين الذي انتهى إليه بحث الموسيقى المتخصص.
ومفهوم الشعر ذاته بالمدلول اللغوي مرتبط بمعنى الغناء .. والقول بأن الجاهليين يعرفون بحور الشعر قول غير دقيق، ذلك أن الجاهلية لا تعرف للشعر بحوراً، كما أن البحر بهيكله ليس شرطاً لمعرفة الوزن واللحن.
وإنما أصبح البحر- أو أي عوض عنه كالإيقاع أو الغناء- شرطاً لمعرفة الوزن دون اللحن بالنسبة لمن تبلدت أذنه.
وبعد أن تحول العرب من الأمية إلى الكتابة أصبح من الضروري أن يكون المعروف للعرب بالسماع والموهبة معروفاً لخلفهم بالقراءة .. أي برؤية البصر.
وكون الممارسة بسماع أو حفظ الشعر تنتج ملكة إقامة الوزن لا يعني أن الوزن يكون بدون اللحن الغنائي، فالواقع أنه لا وجود لوزن الشعر إلا بالغناء .. ذلك أن الشعر (الذي تدربت على سماعه الأذن واكتسبت ملكة إدراك وزنه) لم يتحدد وزنه في الأصل إلا عن لحن غنائي .. وهذه يجب أن تكون مسلمة تاريخية، فلقد ذكر الدكتور طه حسين زعم من زعم أن (9) العرب توهمت أعاريض وضروباً فنظمت عليها الشعر، فكان ذلك تفسيراً لنشأة الشعر عند العرب.. وذكر زعم من زعم أن أوزان الشعر العربي اشتقت من حركات الإبل، وقرر العميد مذهبه فقال: "والشيء الذي يظهر أن لا سبيل إلى الشك فيه هو أن وزن الشعر العربي- كوزن غيره من الشعر- إنما هو أثر من آثار الموسيقى والغناء، فالشعر في أول أمره غناء، ومن ذكر الغناء فقد ذكر اللحن والنغم والتقطيع .. فالشعر في أول أمره غناء، ومن ذكر الغناء فقد ذكر اللحن والنغم والتقطيع.. أو قل بعبارة موجزة : فقد ذكر الوزن .
والواقع أنا لا نعرف في تاريخ الأمم القديمة أن الشعر والموسيقى قد نشأ مستقلين، وإنما نشأ معاً ونَمَوَا معاً أيضاً، ثم استقل الشعر عن الموسيقى فأخذ يُنشد ويُقرأ .
وظلت الموسيقى محتاجة إلى الشعر في الغناء مستقلة عنه في الإيقاع الخالص، أو قل ظل الغناء نقطة الاتصال بين هذين الفنين.
وفي هذا العصر الحديث وحده أخذت الموسيقى تستغني عن الشعر استغناء تاماً، وتتخذ النثر أحياناً موضوعاً لألحانها.
وأخذنا نشهد في الملاعب الموسيقية الفرنسية قصصاً تمثيلية موسيقية منثورة غير منظومة.
وأخذنا نجد أيضاً قطعاً موسيقية منفصلة منثورة غير منظومة، ولم نشهد في لغتنا العربية إلى الآن فيما يظهر غناء يعتمد على النثر دون الشعر.
وإنما الغناء العربي كله يعتمد على الشعر مهما يكن نوع النظم الذي يُلجأ إليه.
وإنما المسألة التي تستحق أن تدرس وأن يزال عنها الحجاب هي تاريخ الأوزان العروضية التي أحصاها العلماء: كيف نشأت، ومتى نشأت؟ .. وهل عرف العرب الجاهليون هذه الأوزان التي أحصاها الخليل والأخفش؟.. أو هل عرفوا بعضها واستحدث الإسلاميون بعضها الآخر؟.. وما الأوزان التي عرفها الجاهليون؟.. وما الأوزان التي استحدثها المسلمون؟.. وأي أوزان الجاهليين أسبق إلى الظهور؟.. وأيها تطور عن الآخر؟.. وما الأسباب الفنية الاضطرارية أو الاختيارية التي حملت المسلمين أن يستحدثوا من الأوزان؟.
|