الفصل الرابع : الفن معبر، لأنه معرفة :
سوَّغ سارتر عدم قابلية الفنون للالتزام بأن الالتزام يعني وسيلة ذات مدلول وليست كذلك وسائل الفن، لأن الأنغام والألوان والأشكال ليست بعلامات ذات مدلول ، فيحال بها إلى شيء آخر خارج عنها.
ومثَّل سارتر بفكرة الصوت خالصاً بأنها تجريد محض، ونقل عن الفيلسوف الفرنسي الوجودي (مرلبونتي) في دراسات له عن ظاهرات الإدراك: أنه لا وجود لصفة أو إحساس مجردين تجريداً يخليهما من أي معنى . إلا أن ما يفهم منهما إنما هو معنى ضئيل غامض كطرب خفيف أو حزن غير عميق يظل يلازمهما ويحوم حولهما كضباب القيظ .
ثم علق سارتر بقوله : وهذا المعنى الضئيل هو اللون أو الصوت .
ودلل على ذلك بأن كلمة (تفاح أحمر) تدل على معنى حلاوة التفاح . كما أن كلمة تفاح أخضر تدل على طعم المز - أي الحلو الحامض - .
وهذه الدلالة معنى ضئيل يفهم من مجرد تذكرنا لطعم تفاحة حمراء .
قال أبو عبدالرحمن : وقد ناقشت هذه الدعوى في كتابي "الالتزام والشرط الجمالي" بأن المفردة اللغوية هي وحدة الجملة المفيدة في النثر.
فكلمة مفردة ككلمة (طويل) ليست علامة ذات مدلول إلا إذا كانت في سياق كقولنا: (سارتر طويل) .
ولا مفهوم للطول إلا بتصور من هو أقصر من سارتر .
إذن لا فرق بين الثر وضروب الفن إذا جعلنا المعيار الوحدة والبنية .
وإذن فالنغمة من فن اللحن كالمفردة من النثر الفني وغير الفني من ناحية الدلالة سلباً وإيجاباً .
كما أن سارتر عائم بين الإحساس الذي هو سبب للإدراك وبين الإحساس الذي نتيجته الإثارة .
إن الإدراك الي وسيلته البصر يعني إحاطة البصر بالمرئي من جميع أطرافه .
وهو في المعرفة يعني حصول صورة المدرك في الذهن سواء أكانت تصورية أم حكمية، فهو عند فلاسفة العرب يشمل تمثل حقيقة الشيء وحده، وهو المسمى تصوراً .
ويشمل تمثل حقيقة الشيء مع الحكم عليه بالنفي أو الإثبات، وهو المسمى تصديقاً.
والإدراك ليس هو الإحساس، وإنما الإحساس مصدر للإدراك .
وكل صورة في ملكة العقل فهي إدراك . إلا أن محاكمة الإدراك إلى معايير الحقيقة يقسم لنا الإدراك إلى إدراك عقلي، وإدراك خيالي، وإدراك وهمي .
ومن ذكر إدراكاً رابعاً، وهو الإدراك الحسي فقد غلظ، لأن الحس مصدر جميع أنواع الإدراك وليس قسيمها .
وهذه المعاني عند فلاسفة العرب هي المعقولة لانسجامها مع معاني اللغة ومع طبيعة أعمال ملكة العقل .
إن قضية الالتزام الأدبي لا تتوقف على تمذهب في الإحساس والإدراك .
وإن إقحام التمذهب في الإحساس والإدراك لا يحقق فارقاً بين النثر وضروب الفن.
كما أن رأي (مرلوبونتي) عن الإدراك ليس قرار مختبر علمي أيده رجال العلم وأصبح حقيقة علمية، وإنما هو رأي نظري، ومع أنه نظري فلا يعني الإجماع ولا الأغلبية فهو مردود إلى النظر والتحقيق .
فما هو إحساسُ نوعُ من الإحساس الاستاطيقي، وهو الإحساس الجمالي .
وهذا الإحساس ليس سوى شعور القلب بالبهجة والنتعة من رؤية منظر أو سماع صوت، وهذا شعور بسيط لا يجوز تسميته إدراكاً، وإنما هو شعور قلبي بحت لا علاقة له بتصور العقل ولا بحكمه.
ثم تتمكن في مشاعر الفرد أحاسيس متنوعة متمايزة من عدة مسموعات ومرئيات. إلخ، كلها مثير للبهجة أو الانقباض، وهي متفاوتة في الإثارة بين الأشد والأضعف.
وعلاقة القل بتوالي المشاعر وتمايزها علاقة تصور تختزنه الذاكرة .
فممايزة العقل - بواسطة الذاكرة - بين الأحاسيس هو الإدراك العقلي التصوري .
فالعقل يدرك أنواع الإحساس الجمالي إستنباطاً من مشاعر القلب .
وبعد تصور العقل للتمايز في توالي الإحساسات يصنفها ويصنف حالاتها ومناخاتها، ويصنف أفضل وأسوأ حالات ابتهاج القلب أو كآبته بين الأشد والأضعف، فتكون عملية إدراك العقل حكمية . أي أحكام الجمال المعقولة .
قال أبو عبدالرحمن : ولننظر جانب المعرفة والتعبير من هذا السياق لابن رشد. قال:"وأما النغم فإنها تستعمل في القول الخطبي لوجوه:
أحدها : عندما يريد المتكلم أن يخيل أنه بذلك الانفعال أو الخلق عند السامعين مثل أنه إذا أراد أن يخيل فيه الرحمة رقق صوته، وإذا أراد أن يخيل فيه الغضب عظم صوته . وكذلك في الأخلاق .
وإنما كان ذلك كذلك لأن هذه الأصوات توجد بالطبع صادرة عن الذين ينفعلون أمثال هذه الانفعالات .
والوجه الثاني : أن يكون قصده تحريك السامعين نحو انفعال ما، أو خلق ما. إما لأن يصدر عنهم التصديق الحاصل عن ذلك الانفعال أو الخلق، أو الفعل الصادر عنه .
والوجه الثالث : عندما يقتص عن مخبرٍ عنهم بأن يصفهم بذلك الانفعال أو الخلق.
ومنها أيضاً أنها تستعمل لضرب من الوزن في الكلام الخطبي" (24) .
قال أبو عبدالرحمن : التعبير هاهنا أنه عبر عن مشاعر . وقبوله للالتزام أنه حرك مشاعر .
وقال الفرابي "فطراغوذيا مثلاً نوع من الشعر له وزن معلوم يلتز به كل من سمعه من الناس أو تلاه . يذكر فيه الخير والأمور المحمودة . وأما ديثرمبي فهو نوع من الشعر له وزن ضعف وزن طراغوذيا . وأما قوموذيا فهو نوع من الشعر له وزن معلوم تذكر فيه الشرور، وأهاجي الناس، وأخلاقهم المذمومة" (25).
وقال الكندي :"فإن الإيقاعات الثقيلة الممتدة الأزمان مشاكلة للشجن والحزن ، والخفيفة المتقاربة للطرب وشدة الحركة والتبسط ، والمعتدلة مشاكلة للمعتدل .
وكذلك أوزان الأقوال العددية المشابهة للنسب، فينبغي أن توضع لنحو من هذه الثلاثة أنحاء .
فإن يكمل ذلك يكون تكميل حركة النفس في النوع الذي قد يكون تحريكها فيه من الأنحاء الثلاثة وأقسامها"(26) .
وقال بن سينا "والشعر من جملة ما يخيل ويحاكي بأشياء ثلاثة : باللحن الذي يتنغم به، فإن اللحن يؤثر في النفس تأثيراُ لا يرتاب به، ولكل غرض لحن يليق به بحسب جزالته أو لينه أو توسطه، وبذلك التأثير تصبر النفس محاكية في نفسها لحزن أو غضب أو غير ذلك .
وبالكلام نفسه، إذا كان مخيلاً محاكياً .
وبالوزن، فإن من الأوزان ما يطيش، ومنها ما يوقر، وربما اجتمعت هذه كلها"(27).
وقال ابن سينا "والمحاكاة هي إيراد مثل الشيء وليس هو هو، فذلك كما يحاكي الحيوان الطبيعي بصورة هي في الظاهر كالطبيعي .
ولذلك يتشبه بعض الناس في أحوله ببعض، ويحاكي بعضهم بعضاً، ويحاكون غيرهم" (28) .
وعرف الفارابي الأقاويل الشعرية بأنها "التي تركب من أشياء شأنها أن تخيل في الأمر الذي فيه المخاطبة حالاً ما، أو شيئاً أفضل أو أخس .
وذلك إما جمالاً أو قبحاً أو جلالة أو هواناً أو غير ذلك مما يشاكل كل هذه" (29) .
وقد قسموا الفنون إلى تشكيلية كالتصوير، والنحت، والعمارة. وتعبيرية كالموسيقى والشعر .
والواقع أن التشكيلية ذات دلالة فتكون تعبيرية من هذا الملحظ .
وقال الفارابي :"والألحان بالجملة صنفان على مثال ما عليه كثير من سائر المحسوسات الأخرى المركبة مثل المبصرات والتماثيل والتزاويق، فإن منها ما ألف ليلحق الحواس منه لذة فقط من غير أن يوقع في النفس شيئاً آخر، ومنها ما ألف ليفيد مع اللذة شيئاً آخر من تخيلات أو انفعالات، ويكون بها محاكيات أمور أخر" (30) .
وقال :"ولما كان كثير من الهيئات والأخلاق والأفعال تابعة لانفعالات النفس وللخيالات الواقعة فيها على ما تبين في الصناعة المدنية: صارت الألحان الكاملة نافعة في إفادة الهيئات والأخلاق، ونافعة في أن تبعث السامعين على الأفعال المطلوبة منهم، وليس إنما هي نافعة في هذه وحدها، لكن وفي البعثة على اقتناء سائر الخيرات النفسانية مثل الحكمة والعلوم" (31) .
وقال :"الأشعار كلها إنما استخرجت ليجود بها تخييل الشيء وهي ستة أصناف. ثلاثة منها محمودة، وثلاثة مذمومة .
فالثلاثة المحمودة أحدها الذي يقصد به صلاح القوة الناطقة، وأن تسدد أفعالها وفكرها نحو السعادة، وتقبيح الشرور والنقائص وتخسيسها .
والثاني الذي يقصد به إلى أن تصلح وتعتدل العوارض المنسوبة إلى القوة من عوارض النفس ، ويكسر منها إلى أن تصير إلى الاعتدال، وتنحط عن الإفراط، وهذه العوارض هي مثل الغضب، وعزة النفس والقسوة، والقحة، ومحبة الكرامة، والغلبة، والشره، وأشباه ذلك . ويسدد أصحابها نحو استعمالها في الخيرات دون الشرور .
والثالث الذي يقصد به إلى أن تصلح وتعتدل العوارض المنسوبة إلى الضعف واللين من عوارض النفس، وهو الشهوات واللذات الخسيسة وزور النفس ورخاوتها، والرحمة، والخوف، والجزع، والحياء، والترفة، واللين وأشباه ذلك لتكسر وتنحط من إفراطها إلى أن تصير إلى الاعتدال، ويسدد نحوها استعمالها في الخيرات دون الشرور .
والثلاثة المذمومة هي المضادة للثلاثة المحمودة، فإن هذه تفسد كل ما تصلحه تلك وتخرجه عن الاعتدال إلى الإفراط" (32) .
قال أبو عبدالرحمن : النقد الجمالي علم وفكر، وليس ذلك أن الجمال ليس معرفة في ذاته، وأنه بني عليه تنظير ونقد فأصبح ذلك التنظير والنقد هو العلم لا الجمال ذاته .
بل الجمال معرفة في ذاته، لأن الجمال تذوقاً وإحساساً معرفة لها أصولها . كما أنه إبداعاً مسبوق برؤية الفنان الشاملة ليجسد في عمله الفني خبرته هو وتجربته، والتجربة الإنسانية اجتماعياً ونفسياً وخلقياً ودينياً . ولكن يجسد ذلك بتشكيل ( أو توصيل) جمالي . فكل هذا معرفة . واستجلاء قدرة الفنان، وتفسيرها، وتحليلها معرفة. وهذه المعرفة من عناصر سوسيولوجية، وسيكلوجية، وأخلاقية، وميتافيزيقية (33) .
ولهذا لما عرف الكسندر بورماتن الجمال في كتابه "تأملات في الشعر" جعل علم الجمال هو المرادف لعلم الإدراك الحسي، أو نظرية في أدنى أنواع المعرفة، أو فن التفكير الجميل، أو التفكير بالتشابه (34).
قال أبو عبدالرحمن : فكل هذه المترادفات تعني أن الجمال وعلومه معرفة .
وقد جعل مارتن علم الجمال أيضاً موازياً لنظرية الفنون الجميلة ، لأنه يريد أخذ عناصر الجمال من فنون عرف السواد الأعظم أنها جميلة .
كما أن وولف ولايبنتز اعتبرا الجمال كمالاً مدركاً بالحس، أو تخيلاً محسوساً(35) .
قال أبو عبدالرحمن : وتتميز الأحكام الجمالية عن الأحكام المنطقية بأن مصادر العقل في حكمه الجمالي محصورة حصراً محكماً في ثلاث جهات هي :
1. صفات وخصائص المرئي أو المسموع الذي أثار جمالاً أو قبحاً .
2. ما اختزنته الذاكرة من مشاعر أثارت ابتهاج القلب أو اشمئزازه .
3.علاقة الحالات المختلفة للمرئي والمسموع . إلخ بمشاعر القلب المختلفة .
والعقل في كل أحكامة بالجمال أو القبح مجرد ناقل أمين لمشاعر القلب في حالات مختلفة وأزمنة متوالية .
وعمله الجوهري هو استذكار الأشد والأضعف لكل حالة تجريبية خلت .
وبهذا يتضح أن الحكم الجمالي - ابتداء بالخارجي المؤثر وانتهاء بالحكم العقلي - يمر عبر الأطوار التالية :
|