أسوأُ البيئاتِ ليست تلك التي تعجُّ بالضجيج،
ولا التي تتقاذف فيها الألسنةُ سهامها،
بل تلك التي تُخفي السهام في العيون،
وتُداري العداوةَ بابتسامةٍ باردةٍ لا دفءَ فيها.
بيئةٌ تمشي فيها على جمرٍ،
ولا تدري لمَ احترقت.
أن ترى الكُره في الملامح،
وتجهل سببه،
أن تشعر بالنفور يتسرّب من الجدران،
وتظلّ تسأل: ماذا فعلتُ؟
هو عذابٌ من نوعٍ آخر…
عذابُ الصمت المتواطئ، والشرّ المُقنَّع.
تُصبح الكلمةُ لغزًا،
والسكوتُ تلميحًا،
والوجودُ بأكمله… عبئًا.
تلك ليست بيئة،
بل ساحةُ ارتياب،
تموت فيها الثقة،
وتذبل فيها الأرواح،
ويُصبح البقاءُ فيها… نجاةً مُعلّقة.
ويغدو الصدقُ تهمة،
والوضوحُ جُرأةً لا تُغتفَر،
ويصير الحذرُ فِطرة،
لا لأنك تُبغض، بل لأنك تُبغَض.
في تلك البيئة، لا تُوزَن القلوب بما تحمل،
بل تُوزَن بما يُقال عنها،
لا يُؤخذ منك ما تُعطي،
بل يُؤخذ عليك ما تجهل أنك قلت.
كلُّ شيءٍ فيها معلّقٌ بين الظنّ والريبة،
وكلُّ نواياك تُقرأ مقلوبة،
فتخسر حتى براءتك لأنك لم تتقن فنّ التخفي.
هي بيئةٌ لا تنمو فيها الأرواح،
بل تذبل، وتُحاصر، وتُخنق.
بيئةٌ تُعلّمك الصمت، لا لأنه حكمة،
بل لأنه درع.
فتعيش فيها على الهامش،
تمشي على أطراف الكلمات،
وتتعلّم أن تُخفي وجهك الحقيقي،
لا لأنه قبيح،
بل لأنّ الجمال فيها يُشكُّ فيه.
وتمضي…
بك حنينٌ لصدقٍ لم يُفهم،
وعتابٌ لم يُسمع،
وأمانٍ… لم تعرفه تلك الجدران قط
|