قبل دقائق
مَضَت فترة ليست بالقليلة على اجتماعهم..كُل فَرد اجتذبتهُ الحياة لتُمرّغه بوحلِها و حيناً بعسلها..إن وُجِد ! كان اللقاء الأخير في حفلة زواج حَنين التي أنهتهُ بدراما استنكرتها ألسنتهم..و الآن بدأت تَنجلي عن محور ذاكرتهم شيئاً فشيء..،هي كانت مع نور في مرسمها الصغير..تَركتهما جنـان لتُرافق الطفلتان جَنى و بيان في لعبهما حسب طلب جَنى التي تَخشى أن تترك ثوب والدتها و تمسي كفَّها باردة دون وجوده..،بقيت هي وحيدة مع نـور التي لم تكن تعلم بالخُطَّة المُحاكاة لغرض إسقاطها في الشبكة التي ابتاعتها غيداء من متجر والدتها المُتيقنة بذنبها..،كانت تَطوف على اللوحات المُعلَّقة بترتيب،تَسبح بين ألوان هذه و تُسجَن عند خطوط تلك المُنعقدة بين الأسود و الأبيض..على الصفحات أحاكت ابنة عمّها حكايات لا يمسسها سوى القَلب المُتيقظ..تسطر قصصاً بخطوطها الإبداعية..بموهبتها تُحادث النفس عند فرحها و ترحها..كانت و لا زالت تتشرب هذه الموهبة و أسفاً أنَّها لا تسقي المُجتمع بها..،وقفت عند إحدى اللوحات المُحتضنة طفل ينطوي على نفسه و كأنه يغفو في رحمٍ لا مرئي..على جسده الدماء تنعاه و في عينيه ضوء أمل على مشارف الانتحار..نَطَقَت و الإعجاب يُسيّر كلماتها،:جمــال جمال اشوفه على الورق،ماشاء الله عليش "استدارت تنظر لها مُردفة" حرام هالإبداع ينسجن في هالغرفة،ما تفكرين تسجيلن في معارض ؟
غيداء التي كانت تقترب من الباب أجابت بهدوء و ظهرها لنور المُستمعة،:بـلى،بس بسرعة اشيل الفكرة من بالي،ما احس اني ابي اعرض اللوحات،يعني في النهاية انا ارسم لنفسي فقط
استدارت لها بعد أن أغلقت الباب و الجَمود طائراً يُلَوّح بين طَيَّات ملامحها مما أثار استغراب نور التي ابتسمت لها تُزيح شرارات التوتر التي شعرت بغزوها البطيء للمكان..لكن غيداء لم تبتسم فالجليد كان أقسى من أن يرسم ابتسامة على شفتيها المَزموتين..عَقدت ذراعيها على صدرها و بدأت تقترب من نور التي عادت لاستكمال تأملاتها للوحات..وصلت عند إحداهن و التي كات مقلوبة باتجاه الحائط..بضحكة قالت و هي تتناولها،:على عمري ليش هذي المسكينة مقلــو
سيفُ ابتسامته غادر غمد شفتيه عابراً حلقها ليقتطع أنفاسها مُفرجاً عن شهقة آلمت قلبها حد الشعور بالاختناق..ارتعشت أناملها المُمسكة بأطراف اللوحة القابع وَجهُه بين إطاراتها..و كأنَّ عينيه تُعانقان عينيها حَقيقةً..ببروده المُستَفز و جُنونه الغافي فوق حاجبه المرفوع..أخفضت بصرها المُثقَل من ينابيع عينيها لتصطدم بذقنه المَوسومة عليه آثار الغُرز الأربع..،كيف استطاعت يدها أن تعثر عليه بين غيهبات الغياب و تسجنه بين إطارات لوحة جُنونه يستطيع التَمَرُّد عليها ؟ عُقدة استنكار طالت المنطقة المُنكمشة بين حاجبيها و عقلها يُعيد قراءة السيناريو الذي اتبعته غيداء،التفتت تنظر لها لتصطدم برياح الشك المُحاربة رياح اليقين بين عينيها..بَلَّلَت شفتيها قبل أن تستل صوتها من قعر غَصَّاتها لتقول و القَهر لحنها،:شنو تقصدين من هالحركة ؟
ابتسمت ببرود و هي تُقابل سؤالها بسؤال مُبَطَّن استنشقت نور فحواه،:اي حركة ؟! فهميني ماني فاهمة شنو تقصدين
بحدَّة مُرتعشة قالت و كفها تقبض بقوَّة مُوجعة على اللوحة،:اقترحتين نجي نشوف المرسم و ما اصريتين على جود و حنين ان يجون ويانا،و جنان تركتينها ويا جنى و بيان عشان تنفردين فيني "ازدردت ريقها تجتذب صوتها الذي خانتهُ القوَّة مُردفة و هي تهز اللوحة بحرقة" و قلبتين هاللوحة عمداً من بين كل اللوحات عشان تلفت نظري،ليـــش ؟
تجاهلت انعقاد نبضاتها ندماً على الدموع التي تتطافر من مُقلتي نور الصارخة بالبراءة لتقول بجدية مُهتزة،:يعني فهمتين نور ؟ تدرين شنو اقصد ما يحتاج اقول
أمــال الأسـى شفتيها بالتطارد مع ميلان الدمع على سفوحها المظلومة..بهمس مُتصدّع،:اقنعتش امش بظنونها ؟ صدقتيها غيداء ؟!
بحـرقة أجابت و صوتها يتسلق جبال القسوة لتقذف روح نور بسهامٍ أعادتها لذلك الصُبح الذي أحالها مُتَهم يقف على باب الغُفران،:مو بس ظنون امي يا نور،كل شي اتذكره خلاني اتأكد من شكوكها "أشارت للخلف تُعيد التنبيش في الماضي مُردفة بابتسامة ثقة" نور ترى كنت ادري ليش كنتِ تنامين عندي ايام العُطل،كل من يدري ان نومي خفيف و كنت احس فيش و انتِ تتسحبين من السرير الفجر
تَراجعت للخلف تنجو بنفسها من اتهاماتها المُغرضة القاصدة بؤرة في قلبها أصمتتها لأعوام خَوفاً من التَمرغ في وحل الذنوب..رأسها ناشد اليَمين و اليسار يُؤكد على رفضها الساحق لهذا الحديث المسموم الذي أكملتهُ غيداء بحدَّة مُوجعة،:خلينا من هذا كله،بنقول كنتِ مو على ذمة عبد الله و لا كنتِ تدرين ان بيكون زوجش "أدارت يدها في الهواء تبحث عن إجابة" قولي لي ليش انقلب حالش بعد ما اختفى ؟ و سويتين المُستحيل عشان عبد الله يطلقش و هذا اللي نلتيه في النهاية،ليـــش ؟!
اقتلعت صوتها من أرض نوحها مُجيبةً بقهر،:لأن امش سوت كل شي عشان تحسسني بالذنب،لعبت لعبتها صح جتني من كل صوب و اقنعتني اني غلطانة و اني مجرمة بحق عبدالله "احتدَّ صوتها مُجتراً معه ذيول البراءة التي اقتطعتها والدته" هي وصلت لدرجة انها تطعني في شرفي،قذفتني غيـ ـداء
نحت غشاوة الدمع عن عينها بيد و الأخرى بضعف مُتمسكة باللوحة..أرادت أن ترى بوضوح علامات الصدمة تتحطم على ملامح غيداء بعد إفصاحها بظُلم والدتها الذي لم تعترف به لأحد قط..لكن ذلك الإخفاض المُسيطر على جفنيها و الوجوم الغارق حواسها جرفاها لمقصلة الإعدام..تساءلت بحذر يخشى الانكسار من عَزيز،:غيـ ـداء انتِ مصدقة امش ؟ مصدقة اني خنت عبدالله ؟
هَربت عينا غيداء خلف إغماضٍ تفرعت على إثره خطوط قلة حيلة عَلَّقت ملامحها في الهواء لتُبصر من علو ذَوي قلب أخيها الرقيق،المُحب بصدق..و على الجانب الآخر تَلمح ابنة عمها تُكبلها "افتراءات" والدتها التي يعلم جواها يَقيناً بطهارة روح ابنة عمّها منها،إلا أنَّ بؤسها على أخيها أرغمها على اجتراعها صِدقاً لتُحيل القضية على كاهل نـور التي تَفَرَّقت أصابعها بعد انحلال قوتها من الارتعاشات لتسقط اللوحة مُخلّفة دوي أرجف الاثنتين..نَطَقت بحرقة أشعلت غيداء حَرجاً و عُروق القَهر قد شَقَّت طريق جسدها حتى كادت تخترق جلدها،:انا بنت عمش شلون تفكرين فيني بهالطريقة ؟!
أجابت و لسانها يستعين بالكلمات لتبرير فعلتها الشنعاء،:نور انا احبش و احب عبدالله "أشارت للوحة المَلقية" و احبـه و مشتاقة له بعد "نظرت لها و الدمعُ يسكن راحة مُقلتيها" بس مااقدر اشوف اخوي مقهور و اسكت، وانتِ عايشة حياتش و تطلبين منه ينسى بسهولة "بتردد أكملت و هي تُبصر السيل الغارق وجه نور" و انا كنت شاكة بقصة حبكم اللي ما اكتملت فـ
قاطعتها و الحَنَق أرفع صوتها المَبحوح،:لا تقولين قصة حب،ما كان بينا شي ما كان يحبني و لا كان يبيني "أشارت لنفسها و صوتها ينحني يَرجو تصديقاً" غيداء انا حبيت عبدالله،و اخذت عهد على نفسي اني ما ارفع عيوني على رجال غيره مادام انا على ذمته "شَدَّت قبضتها على قلبها و الماضي شَدَّ حبله ليُخنق أنفاسها" بس من بعد الكابوس كل شي تغير "رفعت عينيها لها مُردفة بلا وعي" و كأن امش كانت تدري عنه !
تساءلت غيداء بعدم فهم،:اي كابوس ؟!
السُخرية عانقت شفتيها لتُجيب و الدمعُ قد تخثر عند قارعة وجهها،:اذا انا مو فاهمة هالكابوس انتِ بتفهمين يا غيداء ؟!
تَركتها و يدها ترتفع لفمها تحتوي شهقاتها المُحمَّلة بخناجر تُدمي حلقها المأهول بالغصَّات..وصلت للأسفل حيث اختلت غرفة الجلوس من أهلها..ارتدت عباءتها بسرعة مُستفيدة من غيابهم في غرفة الطعام..تناولت حقيبتها و بخطوات واسعة غادرت المكان لتصبح بعد دقائق خارج أسوار المنزل حيثُ أركنت سيارتها..،رَكبتها على عَجل سامحة لشهقاتها بالالتحام مع ذرات الهواء المُصمتة فيها..انعقدت معها لتورثها ضَجَّة أرجفت قلبها المَشروخ من اتهامات باطلة بدأت تطال فِكر ابنة عمها الحَبيبة..زَفَرت أوجاعها و هي تتراجع مُستندة للمقعد و أطياف الكابوس تُعاود سَيطرتها على ذاكرتها المُشوشة..تشعر بخواء يرتدي صَمتاً مُوحِش يَغشى حياتها..كُلَّما أرادت الانفصال عن الوحشة باغتتها بمخالبها السوداء مانعة البياض من ترشيح روحها..،هَدأت الشهقات و بَقي صَخب الدمعات،بَلَّلت شفتيها و رأسها يَميل يساراً تنظر من النافذة لداخل المنزل جهة عُشه المهجور..سالت دمعة انعكس فيها وجهه الغائب لعامان..مُباشرة بعد سطوة ذلك الاتهام ! حَلقة مَفقودة في هذه القصة المُكتنفها غموض يبعث شعور بعدم الراحة في قلبها كُلَّما تذكرته..هو و تلك الرائحة..،اعتدلت في جُلوسها و خاطرٌ ما بدأ يهمس لها بسبر أغوار ذلك الكابوس الذي أعقبه صباحٌ كانت فيه تقف على منصة الإجرام..أخفضت بصرها لحقيبتها المُستقرة وسط حضنها..حَشرت يدها فيها لتُخرجها بعد ثوانٍ و الهاتف وسط راحتها..ازدردت ترددها و أصابعها انتقلت لاختيار الأرقام المَحفوظة في ذاكرة قلبها..أرفعته لأذنها و صوت الرَنين أرجف أوصالها،إذاً لا زال هُنا..،انقطع الرنين دون جواب..أعادت الكَرَّة و إصرار مُتهدل الأطراف ينوح فوق جفنيها..تَجَمَّدت نبضاتها و صوت أنفاسٍ على الطرف الآخر تعبر مسامعها مثل نسيمٍ عَذب عانق الرئتين بعد غَرق،شتاءٌ عاد بعد غياب قرون ينقذها من لظى الكلمات..طوق نجاة تُقربه منها أمواج بحره..صديقه الوفي..،فتحت فمها تتلفظ بإسمه المُفتقر لهُ صوتها لعامان،نَطَقت و ارتطام الدمع بوجنتها عَزفَ لحن احتياج مَرير..
،:طـــلال !
|